هل لك عدة أوجه؟

بقلم: ياسمين يوسف

هل يخبرك المقربون منك بأنك ألطف في معاملة الأغراب مقارنة بمعاملتك للمقربين منك؟ هل يتهمك المقربون منك، بأنك ذو وجهين أو تعامل الناس بطريقة وتعاملهم هم بطريقة أخرى؟ هل تشعر بالذنب لأنك تعامل أبناءك بقسوة، بينما تبدو متفهّمًا لأخطاء أبناء الآخرين وأكثر تقبلًا لها؟ إذا كنت كذلك، فهذا المقال لك.

لست منافقًا

إذا كنت تبذل جهدًا لتحرّي رضا الله ﷻ وطاعته وإذا كنت في مجملك لا تسعى لخداع الناس بإظهار نفسك بصورة غير التي هي حقيقتك، فأنت لست منافقًا. الأمر يتعلّق بدخول عنصر حيوي ومؤثّر في علاقتك بالآخرين، حقوقك والتي يؤثر احترام الآخرين لحقوقك أو عدمه، تأثيرًا مباشرًا على مشاعرك والتي تؤثر بالتالي على سلوكك. أنت مزوّد بعدد كبير من المشاعر التي تستثيرها الأحداث من حولك. تتعلق استجابتك الشعورية بقناعاتك الشخصية وترتبط مشاعر الغضب تحديدًا بحقوقك والحقوق التي تهتم بها. فمشاعر الغضب، هي الاستجابة الطبيعية عندما تعتقد أنه قد تم انتهاك حق من حقوقك. تساعدك مشاعر الغضب تلك على السعي لاستعادة حقوقك ومعاقبة المُعتدين.

تستجيب بكل ما فيك لكل موقف

أنت ليس لديك عدة أوجه، ولكنك تستجيب بكل ما فيك لما حولك حسب كل موقف. فإذا احترم الآخرون حقوقك وعاملوك بلطف، وجدت طبيعتك التلقائية هي اللطف معهم. وإذا تجاهلك الآخرون، أو انتهكوا حقوقك وعاملوك بجفاء، تجد أنه من الطبيعي ألاّ تكافئهم على فظاظتهم وظلمهم. وستتعامل معهم بما يستعيد حقوقك ويحفظ كرامتك وهيبتك. وأنت بذلك لا تصبح نسخًا من الآخرين (إذا تبادر هذا إلى ذهنك). فأنت لن تخون من خانك، ولكنك ستسعى للحرص منه ولن تكون ودودًا معه. وأنت لن تحرم من حرمك حقك، من حقه. ستؤدي الحقوق ولكنك ستسعى لاسترداد حقك ولن تكون لطيفًا معه. ولا يُفسد هذا من كونك شخصًا ودودًا بالمجمل، بل عدم اللطف في مواقف بعينها، يكون هو التصرّف الأمثل. أنت إذًا حيويٌ ومتفاعل مع محيطك ومع من حولك وتستجيب لكل موقف بما يُصلح الموقف ولست حجرًا جامدًا تتعامل مع كل الناس بنفس الشكل في كل المواقف!

القريب والغريب

لماذا يبدو أن الغريب قد لا يستفز فيك مشاعر الغضب كالقريب؟ الإجابة تعود لعوامل كثيرة أهمها الحقوق. أنت لك من الحقوق على القريب أكثر من الغريب. وبالتالي، فرص انتهاك الغريب لحقوقك تكون أقل من فرص انتهاك القريب لتلك الحقوق. فأنت لا تريد من الغريب سوى المعاملة اللطيفة والابتسامة والذوق في التعامل. يكفي هذا لأن يخرج أجمل ما فيك. أما القريب، فلك عليه حقوق عدة. وهناك فرص عدة خلال اليوم يمكن أن يُخل فيها القريب منك بحقوقك. وبالتالي تستجيب على هذا الأساس. فالقريب يستثير مشاعرك والتي هي شخصية جدًا فيك. أما الغريب، فالأمر لا يكون شخصيًا في الغالب. ولكنك عندما يتعدى الغريب على حقوقك، فأنت لا تترك حقك أيضًا وتتعامل على هذا الأساس.

الأمر نسبي

يعتمد الأمر أيضًا على اختيارك لمعاركك وما الذي تعتبره حقًا يستحق الدفاع عنه وما هو ليس بنفس الأهمية. الأمر حقًا نسبي لكل شخص. فالشخص الذي يرى أن الاهتمام هو أكبر حقوقه على المقربين منه، قد يجد في تجاهل ذلك الشخص له مدعاة للغضب. والشخص الذي يرى الحقوق المادية هي كل ما يعبأ به، قد لا يُضيره عدم الاهتمام بقدر ما يُغضبه عدم الوفاء بالحقوق المالية. لذلك فحاول أن تفهم ترتيب أولوية الحقوق لدى من هم حولك. وحاول أن تفهم أولوية الحقوق لديك من الطريقة التي تستجيب بها لتفاعل الآخرين معك. ما الذي أنت سريع الغضب تجاهه؟

تهذيب الحقوق

ولأن الحقوق نسبية لدى كل شخص، نحتاج لمرجعية قوية. هذه المرجعية تتيح لك تهذيب حقوقك. والمؤمن ارتضى أن يكون رد كل أمر لله ﷻ ولرسوله. فمعاينة ما تعتقد أنه حقوق لك من منظور القرآن والسنّة، أمر ييسر عليك أمر تهذيب حقوقك. 

ولا بأس في أي حق تعتبره لك، لا يخالف القرآن والسنّة وفيما لا يتعارض مع حقوق الآخرين. فمثلاً إذا كنت تعتبر أن من حقك الراحة لمدة يوم في الأسبوع لا يطلب أحدٌ منك شيئًا وتشعر بالغضب إذا ما انتهك المقربون منك هذا الحق، فهذا حقك ولكن عليك أن تجعل رغبتك تلك واضحة لمن حولك وعليك أن تقدّم بدائل لأوقات تأدية حقوقهم عليك في أيٍ من أيام الأسبوع الأخرى. أما إذا كنت تعتقد أن ذلك المقعد الوثير المريح بغرفة المعيشة هو مقعدك وحدك وتغضب إذا ما جلس فيه سواك، فهذا ليس من حقك ويتعارض مع حقوق الآخرين في استخدام المقعد. لذلك حتى تحصل على التوازن وتستطيع ضبط مشاعرك فيما يتعلّق بالغضب تحديدًا، تحتاج لتهذيب قناعاتك حول حقوقك.

غضبك من أطفالك

الغضب أصله قناعتك بانتهاك حقوقك. وتقول “رايفيتش” وشاتي” في كتاب “عنصر المقاومة أو التحمّل The Resilience Factor، أن الغضب قد يحدث حتى تجاه الجمادات، كأن تغضب عندما لا تعمل سيارتك في الصباح في طريقك إلى العمل. فأنت تشعر بالأحقية في أن يعمل كل شيء كما ينبغي وأن تصل لعملك في موعده بدون أن تعطلك قوى خارجية.

يمكننا إسقاط هذا على رؤيتك لحقوقك في البيت. قد تكون حقوقك هي في الراحة، أو الهدوء، أو التعامل معك بصدق احترامًا لذكائك، أو غيرها من الحقوق. غالبًا ما يخرق الأطفال جميع حقوقك. وهم ليسوا على دراية بمعاركك الأخرى التي تطحن فيك بلا رحمة. فقد يأتي طلب بسيط من ابن لك في لحظة حوار عقلي عنيف بداخلك، ليمثّل انتهاكًا صارخًا لحقك في التفكير في مشكلتك. أو قد يمثّل انتهاكًا لحقك في ألاّ تكون فقط محل طلبات من الآخرين بلا اعتبار لجودة حياتك أنت. أو قد يكون انتهاكًا لحقك في الصمت وعدم الحديث عندما تكون مستهلكًا وجدانيًا. وبالتالي قد تجد نفسك تستشيط غضبًا. ولكن سرعان ما تندم بعدها لأن كل الأسباب العقلية التي تستنكر ذلك الغضب، تأتيك لاحقًا. فالطفل له حق عليك. وأنت في الغالب تعامله أحيانًا معاملة الند الكامل العاقل الذي ينبغي أن يراعي ظروفك، أو ينتقي وقت الحديث إليك، أو يتفهم عدم رغبتك في الحديث في هذا الوقت تحديدًا. 

وهناك عدة طرق لمعالجة هذا الموقف. أولها أن تتذكر أن الطفل ليس ندًا كاملاً ولن يفهم كل ما ينبغي أن يفهمه الكبار البالغون. ثانيها، أن تفي بحقوق الطفل عليك. ثالثها أن تعلّم الطفل في تلك السن الصغيرة ببساطة وبالتدريج، حدود التعامل اللائق مع الآخرين كأن يبدأوا حديثهم دومًا بالسؤال عمّا إذا كان هذا الوقت مناسب للحديث معك أو لا. وسيعني هذا أن تمارس أنت ذلك معهم. فإذا كان الطفل يلعب وأنت تريد أمرًا ما منه، ستحتاج أن تسأله إذا ما كان الوقت مناسبًا له للحديث. فالأمر يبدأ من حديثك العقلي مع نفسك والتفاوض حول قناعاتك. ويمر بحرصك على أداء واجبك تجاه الآخر مهما كانت حالتك الانفعالية (وهو تدريب جيد لك للتحكم في النفس وهو من عزم الأمور). وينتهي بتدريب الطفل على المهارات التي يحتاجها معك ومع غيرك في المستقبل.

الأمر شخصيٌ جدًا

والأمر مع أبنائك شخصيٌ جدًا. فأنت تراهم انعكاسٌ لك. وترى أن الناس يحكمون عليك من خلالهم. فإذا رسب أحد أبنائك، هذا مصدر إحراج لك. وإذا سبّب أحد أبنائك إزعاجًا أو تصرّف بقلة أدب، فبالتأكيد سيعتقد الناس أنك لم تستطع تربيته جيدًا. وإذا لم يدخل ابنك مجال الدراسة الذي تريده له أو إذا لم يقبل أن يدير شركتك من بعدك، فأنت تشعر بالحزن والأسى لحالك ولحظّك التعس وقلة حيلتك تجاه أبنائك. وقد تمتزج كل تلك المشاعر بالغضب: الغضب لإفساد صورتك أمام الناس، والغضب لانتهاك “حقك” في أن يحمل ابنك لواءك من بعدك! أبناء الآخرين لا يثيرون كل تلك المشاعر بداخلك بتصرفاتهم!

والحل هنا يكمن في تغيير قناعة واحدة. “ابنك ليس ملكك”. هو ليس موجودًا ليفعل ما لم تستطع فعله في حياتك. هو ليس امتدادًا لك. وهو “إنسان آخر متكامل”، له ردات فعله وطريقة لتحليل الأمور وفي وقتٍ ما يُصبح مسؤولاً عن نفسه ونتائجه. إذا كنت تفعل ما عليك في تربيته، هذّب مشاعرك من إحراج، وذنب، وغضب، وخوف، وحزن. اسمح له أن يُخطيء، وأن يتعلّم. فلا سبيل آخر للتعلّم سوى أن يعاين هو بنفسه نتائج أفعاله. وبالطبع ينبغي أن يفهم المجتمع ذلك أيضًا حتى يكف عن لومك (إذا كنت تبذل قصارى جهدك) كلما قام ابنك بخطأ! وهو له عقل، وميول، ومهارات، وأحلام مختلفة عنك أيضًا ومن حقه أن يرسم الحياة التي يريدها. هل تستطيع تدريب نفسك على التصالح مع هذه الأفكار وتقبّلها؟

فكرة البغي (الظلم) والانتصار

الغضب إذًا ينشأ عن قناعتك بأن حقًا ما قد تم انتهاكه (كما تقول نظرية ثنائيات الاعتقاد والتوايع Belief-Consequence Couplets). الظلم أو البغي هو ما يسبب الغضب. دعونا نرى الخيارات التي يعطيها لنا الله ﷻ في حالة الغضب وحالة البغي والاعتداء. يقول تعالى:

 

“فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ” (43)

(سورة الشورى)

عندما يصيبك البغي أو الظلم، لديك خيار الانتصار لنفسك واستعادة الحق. ولديك خيار العفو والمغفرة. والآية صريحة في التحذير من أن تصبح أنت نفسك باغيًا عندما تحاول رد بغي الآخرين وظلمهم. فالجزاء يجب أن يكون ليس أكبر من حجم الاعتداء نفسه. وأذكر معلمتي أستاذة سمية التي لا تود ذكر اسمها بالكامل، تتحدث عن توجيه الطفل عندما يأتي شاكيًا من أن أحدهم اعتدى عليه بالضرب. فهي تميل لتوجيه الطفل نحو العفو والحديث له عن كيف أنه إذا أراد أن يرد الضربة للطفل الآخر فإنها يجب أن تكون بقوة مماثلة تمامًا لأنها لو كانت أقوى من ضربة المعتدي، أصبحت أنت ظالمًا بعد أن كنت مظلومًا – وهذا يجعل رد الاعتداء بالمثل مستحيلاً فعليًا. وهذا مفهوم يستحق التأمل ويعتمد بالطبع على كثير من المتغيرات حتى يمكن تطبيقه مع ضمان عدم تكرار اعتداء الباغي. والآيات تقول (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)، ففي الأمر تهذيب وتدريب للنفس ولا شك.

عش بكامل طاقتك

الهدف من هذا الطرح هو أن تختار استجاباتك حسب معطيات كل موقف ومع الاختبار الدقيق لقناعتك وفهمك لحقوقك وحقوق الآخرين. وإذا أدى هذا لتعاملك بشكل مختلف عن معاملتك للشخص الآخر، فهذا لا بأس به. طالما أنت لديك تسلسل فكري thought process ناتج عن فهم ووعي بما يُصلح نتائج الموقف، فلا بأس. ما عليك أن تتجنبه هو الاستجابات غير المحسوبة والتي تنشأ بدون تفكير وتؤدي إلى نتائج سلبية. ما عدا ذلك، استخدم كل قدراتك ومهاراتك ومشاعرك وقناعاتك وعِش بكامل طاقتك لا بصورة واحدة ثابتة باهتة ثنائية الأبعاد!