لكي نحيا، لابد أن نموت

بقلم د. محمد عبد الهادي مصطفى

30 مايو، 2021

كلنا يكره الموت، بمن فيهم العبد لله، ولكن ماذا نكره في الموت تحديدا؟ كيفيته، أم سكراته، أم ما يحدث بعده؟ لو سألت رأي الصحابي والسياسي المحنك عمرو بن العاص لقال لك – كما يروى عنه ولده عبد الله رضي الله عنهما:

الموت أعظم من أن يوصف، ولكن سأصف لك منه شيئا، والله كأن على كتفي جبل رضوي، وكأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وكأن في جوفي شوكة عوسج، وكأن السماء أطبقت على الأرض، وأنا بينهما“.

وترى في الصورة جبل رضوى في منطقة ينبع بارتفاعه الذي يفوق 2000 مترًا وصورة أخرى للعوسج المعروف لكل من زار الصحراء. لحظة الموت تؤلم إذًا، ولكن هل هو ألم يدوم أم ألم مؤقت كوخز الحقنة الطبية التي تحمل لك الشفاء والحياة بداخلها؟

فلنسأل الباحث والطبيب “جاستن بيري” Justin Perry  – طبيب الأورام بمستشفى Memorial Sloan Kettering   بنيويورك عن رؤيته للموت وهو يقول (بتصرف):

 “To begin a new life, there should be death before. This death is highly conserved”

بمعنى أنه لكي تبدأ حياة جديدة فلابد من إماتة أشياء قبل ذلك، وهذه الإماتة ضرورية لتسمح بالحياة. وضرب مثلا بالأصابع كيف خُلقت وذكر أنها تتكون عن طريق وفاة مبرمجة ودقيقة للخلايا التي بين الأصابع ولو لم تمت الخلايا بين الأصابع لكانت يد الإنسان مثل يد البطة كما في الصورة وهذه متلازمة خلقية معروفة و لعل البعض منكم رآها تسمىSyndactyly  أي الأصابع الملتصقة وهذه الأصابع لا يمكن أن يمارس بها الإنسان حياته دون جراحة تزيل وتميت الخلايا بينها. يمكنك الاستماع لسرد دكتور “بيري” العلمي في هذه المحاضرة عند الدقيقة 31:22.

ليست الأصابع هي المثال الوحيد. كل عضو فيك تموت خلاياه بشكل منظم لكي يتكون العضو بشكل جديد، وخلل هذا الموت وبقاء الخلايا التي لا يفترض بها البقاء قد يتولد عنه الكثير من الأمراض كمرض الصرع ومرض الزهايمر وتصلب الشرايين وقائمة مطولة من الأمراض المناعية كالذئبة الحمراء والربو وتقرحات القولون. كل هؤلاء يعانون بسبب غياب الموت في بعض أعضائهم. ألا يذكرنا هذا بقول الله ﷻ:

 “الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ” (سورة الملك:٢)، حيث سبق ذكر الموت لأنه أساس الحياة. ويذكرنا بقوله ﷻ:

  • “قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ” (غافر:11)
  • “يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ” قبل قوله “يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ” (الروم:19)

إن هذا الترتيب في حد ذاته لمعجز في القرآن فهو المميت المحيي.

الملاحظة الثانية في الموت هي ذكر الطبيب “بيري” إن الموت عملية منظمة جدا لا خلل فيها ولا خطأ. وهي محكومة بجينات متشابكة تعمل كأوركسترا متناغمة لا يمكن أن تموت خلية خطأ ولا قبل موعدها وهنا نتذكر قول الله ﷻ:

  •  “وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ“(الأعراف: 34)

إذا، لابد من الموت لتكون الحياة، ولكنها ليست أي إماتة، بل هي إماتة منظمة مقننة بعلم وحضور تراعي الوقت والزمان والكيفية لكي تكون إماتة باعثة لحياة جديدة، ولا يملك هذا العلم وهذه القدرة إلا الله ﷻ وحده، ومن هنا ندرك عظمة الله ﷻ في تحريم الانتحار كخرق لهذا النظام الرائع، فهو وحده سبحانه ضابط حركة الموت والحياة، ولا يكون أخذ لحياة إلا بإذنه وأمره.

والآن هيا نتدبر قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام بشكل أعمق في قوله:

  • “إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى” (البقرة:260)

هذا سؤال ذكي، فهو يعلم أن الموت سبب للحياة وهذا حدث له فعلا حينما تعرض للموت في النار وأنجاه الله ﷻ منها فآمن بالله المحيي المميت، ولكن أحب معرفة الطريقة ليطمئن قلبه. ومن هنا نفهم الأوامر التي أعطاها الله ﷻ له بأخذ الطيور الأربعة وتقسيمهن لأجزاء ودعوتهن. هنا يتجلى الموت المنظم الممنهج الذي ينشئ بعده الحياة.

وكذلك نفهم معنى “وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّه” فقدرة سيدنا عيسى عليه السلام على الإحياء والإماتة أتت من هذا الإذن الإلهي. وهذا الإذن لم يكن مجرد كلمة تفوه بها سيدنا عيسى عليه السلام، بل هو نظام بيولوجي مركب تمر القرون به ولم نلم منه إلا بالنزر اليسير.

لقد أرانا الله ﷻ عجائب أسمائه الحسنى بتجسيدها في قصص بعض الأنبياء والرسل، فنفهم “المحيي” و”المميت” في قصص سيدنا إبراهيم، وسيدنا عيسى، والخضر عليهم وعلى نبينا جميعًا السلام ونسأل الله ﷻ أن يرزقنا الإخلاص حتى ننال الفوز العظيم بفهم كل أسمائه ﷻ وصفاته.

 

عن المؤلف

د. محمد عبد الهادي مصطفى

من سفراء مشروع سلام، طبيب اختصاصي بأمراض المخ، والأعصاب، عمل بالتدريس الطلابي الجامعي وحائز على جوائز من كلية الطب بالإسكندرية في العمل التطوعي وخدمة الطلاب والمجتمع. إلى جانب الطب فهو مدرب في لغة الإشارة لضعاف السمع والبكم، اختصاصي في الجودة الطبية ودارس للعلوم الشرعية وللبرمجة الحاسوبية ويسعى لتعلم المزيد.

منذ كان يافعا كان مغرمًا بالأدب الإسلامي والصحفي والشعر وتأثر بالعديد من المفكرين الإسلاميين لا سيما مصطفى صادق الرافعي، وعباس العقاد ود. محمد عمارة. ويحلم بكتابة أدب يرتكز على قيمنا الإسلامية وتنبت فيه أشجار العلم الطبيعي وتورق منه أحدث تقنيات العصر لتخاطب ثماره أفئدة وألباب عطشى إلى المساهمة في الارتقاء بالوعي المجتمعي ووصول كل منا إلى أفضل نسخة من نفسه.