علّمتني نورهان…

بقلم: ياسمين يوسف

25 يناير، 2020

نورهان فتاة كانت على حد قولها، مدافعة عن الإسلام تقضي الكثير من الوقت تحاجج منتقديه بالدليل المنطقي والبرهان. وبعدها تخلت عن الإسلام وأصبحت من المهاجمين له. لم يرعبني التحول الذي حدث في حياتها. ولم ترعبني وفاتها المفاجئة بقدر ما أرعبتني عبارة واحدة ظهرت في صورة وقد كتبتها نورهان على لوحة: “مسلمة سابقة لأني مللت من تطويع المنطق ليوافق النص الديني”! ما أرعبني أن ما قربها للدين، هو نفسه ما أبعدها عنه… المنطق والعقل!

في هذا المقال، لست معنية بمناقشة فكر نورهان ولا أن أحاول التنبؤ بمصيرها بعد الموت! فعلى كل الأحوال، قصة كل منا تكمن أهميتها في هذا الامتداد الزمني للبشرية، فيما يتعلمه كل منها وكيف تؤثر في حياته هو بشكل شخصي وبشكل قد ينفع الآخرين. هذا المقال، أروي فيه ما تعلمته أنا لنفسي وما أود أن اقترحه عليك أنت أيضًا! ما تعلمته هو أهمية الإيمان بالغيب وعندم محاولة الوصول لمنطق كل شيئ!

هل الأصل للمؤمن الشك أم الإيمان؟

الشك يأتي قبل الإيمان وليس بعده. فالإنسان غير المؤمن والذي يبحث عن الحقيقة، يشك في كل شيء حتى يجدها. وبعد أن يجدها، الأصل هو الإيمان والاطمئنان.

يقول الله ﷻ:

قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (الحجرات 14،15)

ويقول ﷻ:

الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ. (الرعد 28، 29)

الأصل في الإيمان، هو الاطمئنان وعدم الريبة واليقين التام والتسليم. لذلك عندما طلب سيدنا إبراهيم عليه السلام من الله ﷻ أن يريه كيف يحيي الموتى، كان الرد الإلهي “أَوَلَمْ تُؤْمِنْ“؟!!

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي. (البقرة 260)

فالإيمان لا يجتمع مع الشك وعدم الاطمئنان. لذلك فليس وظيفة كل مؤمن أن يذهب ليقرأ في الشكوك والشبهات ويبحث في أجوبتها. وليس من النشاط الطبيعي اليومي للمؤمن أن يحاجج المنتقدين ولا أن يعد الحجج الفكرية والمنطقية ليبارز بها المتشككين. المؤمن منشغل بالعمل الصالح وبإعمار الأرض وبناء الحياة وحفظها، وليس متفرغًا لقضايا فلسفية وسفسطة فكرية قد تضرّه بدلاً من أن تفيده وتفيد غيره.

يحتاج الأمر لتخصص

الإنسان العادي لا يستطيع قراءة نتائج شريحة أشعة الرنين المغناطيسي لمريض، ولا يستطيع فهم التقارير والخرائط المالية للشركات، ولا يستطيع فهم جداول المعادلات الكيميائية المعقدة، ولا التصاميم الهندسية المعقدة. يحتاج الأمر إلى تخصص وفهم ودراسة. لذلك فمن العجيب أن نعتقد أن كل فرد عادي يمكنه قراءة آيات القرآن واستخراج دلائل كونية منها يحاجج بها المشككين ويفهم هو منطقها ببراعة! الأمر يحتاج لفهم للغة العربية، وللتاريخ الإنساني، ومجالات المنطق والفلسفة وربما الأحياء، والجيولوجيا، والفيزياء، والرياضيات، والفلك إذا كانت المواضيع محل التشكيك لها علاقة بخلق الكون وبخلق الإنسان وبالظواهر الكونية! لا يستطيع أن ينبري لمجال دحض الشبهات إلا من تخصص فيه وعنده منهجية واضحة وقوية.

بل إن من أكثر الإ‘جراءات غير الأمينة، أن يستهدف المشككون من ليس لديهم مستوى العلم ولا المهارة لاستيعاب المغالطات الفكرية والعلمية في شبهاتهم. وبالتاي يربكون تفكيرهم ويثيرون شكوكهم بطرق غير أمينة. لذلك من أفضل المقاطع على الإطلاق وأكثرها أمانة من وجهة نظري هي تلك المقابلات التي أجراها إعلامي غير مؤمن بنظرية التطور. تجدون الرابط هنا. فهو ليبيّن المغالطات في نظرية التطور، ذهب للجامعة وجادل طلاب قسم الأحياء وأقسام العلوم المتنوعة والمعلمين من حاملي درجة الدكتوراة في المجال ومن المؤمنين بنظرية التطور والمدرسين لها. هنا تكون المناقشة متكافئة وأمينة.

الأمر لا نستطيع التعامل معه بسطحية وبدون دراسة وتعمق في العلوم المتنوعة. فلماذا يعتقد الشخص العادي أنه يستطيع أن يتصدى للشبهات أو أن عليه أن يتصدى للشبهات؟

كلها اجتهادات

إذا لم يخبرنا الله ﷻ ورسوله ﷺ بالأجوبة على أسئلتنا بنصوص مباشرة، كل شيء نقرأه سيكون اجتهاد ومحاولات للتفسير والفهم ولن يستطيع أحد أن يدعي أنه يمتلك الحقيقة المطلقة. يستطيع العلماء والمتختصون أن يقدموا “نظريات” أو تصورات لتقديم تفسير منطقي لأمر إلهي أو لظاهرة كونية. وقد تكون محاولات رائعة جدًا ومنطقية. ولكن في النهاية نحتاج لأن نعترف بتواضع بأنها كلها اجتهادات قد تصيب وقد تخطيء. والإشكالية هنا هي أننا نجتهد حسب السقف المعرفي والفكري لعصرنا. ولذلك قد نتسبب بجهل في تضليل الأجيال الحالية وإثارة الشكوك لدى الأجيال القادمة، إذا أثبت سقفهم المعرفي غير ما تصورناه. والحقيقة أننا لا نعلم شيئًا! حتى عمر الإنسان على الأرض لا نعرفه! فقد كشفت الأبحاث حديثًا عن حفريات لجثث بشرية في شمال إفريقيا أحدثت صدمة في الأوساط العلمية وغيّرت العداد الزمني لوجود الإنسان على الأرض ليصبح 100 ألف سنة إضافية لما أعتقدنا أنه أقرب إلى الرقم الحقيقي!

هذا كله أدعى لأن نؤمن بالغيب بدون أن نحاول فهم كل شيء وإلصاق العلم أو المنطق بكل شيئ. نحاول فقط أن نتحلى بالتواضع لتصديق ” وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا” وأن نصبر على ما لم نُحط به خُبرا.

الأصل هو الإيمان وليس الكفر والإلحاد

ربما تتفق معي أن دعوات الملحدين، سخيفة! وسلاحهم ذو حدين. فهم يقولون أن وجود الإله غير ممكن إثباته وغير منطقي. وما يدّعون أيضًا لا يمكن إثباته وأكثر إغراقًا في اللامنطقية! فالأصل أن الكون موجود وهم لا يستطيعون تفسير كيفية وجوده. فمن أين جاءت المادة الأصلية التي انفجرت لاحقًا؟ وكيف نجد كل هذا الذكاء الوجداني في المخلوقات؟ وكيف يخرج النظام من الفوضى؟ هل يمكن أن نرى طفلاً ونقول أنه وُجد بلا مسبّب؟ أو أن نرى حاسوبًا يعمل بكفاءة ونقول أنه أوجد نفسه؟ أو أن نرى معرضًا منظمًا من اللوحات الجميلة ونقول أنه محض صدفة!

البديهي أن هناك خالق. وعلى غير المؤمن أن يثبت غير ذلك بحجج علمية منطقية يمكن قياسها وليس العكس! وعليه أن يحترم ذكاء من يحدثه ولا يأتي بإفتراضاتٍ ساذجة. كأن يقول أن وحدة التصميم تعني تطور المخلوقات من بعضها البعض. فهو يرى أن لكل المخلوقات أربعة أطراف، في البحر هي زعانف أمامية وذيل منقسم خلفي. وفي الطيور هي جناحان أماميان ورجلين. وفي الإنسان هي ذراعان وقدمان. وهو يستنتج من ذلك أن كل المخلوقات تطورت من بعضها البعض، بدلاً من أن يستنتج مثلاً وحدانية المصمم الخالق سبحانه! إن تلك النظرية هي بسذاجة مخلوقات فضائية تأتي إلى كوكب الأرض وترى سيارات بمحرّكات لها أربعة إطارات، وطائرات لها جناحان وعجلات خلفية ومحركات، وإنسان له ذراعان وقدمان وقلب، فيستنتجون أن السيارة تحولت لطائرة ثم إنسان!

الملحدون ليس لديهم تفسيرًا علميًا حقيقيًا لأي شيء. ومع ذلك يرفضون التفسير الإيماني ويختارون العيش في الشك على اليقين والاطمئنان! الأصل إذًا ألا ندخل في هذه المناقشات أصلاً. وما هدف من يجادل؟ إذا كان ليبحث ويعرف ويفهم، لا بأس. ولكن بمجرد اتخاذه موقفًا دفاعيًا، تحول الأمر لمعركة بقاء واستماتة متكبرة لإثبات خطأ الآخر… معركة لا تستحق الخوض.

الأصل هو الجمال وليس القبح والثواب وليس العقاب

عندما يفكر أي شخص في الهجرة الاختيارية ويبحث عن البلدان التي يمكن أن يهاجر إليها، هو بكل تأكيد يبحث عن الامتيازات التي تمنحها له تلك البلدان لا العقوبات التي تفرضها عليه. هو يبحث عن فرص الدراسة، والعمل، والبرامج التي تقدمها الحكومة للمواطنين من رعاية صحية، وضمانات اجتماعية ومساعدات تعليمية وغيرها. هو بكل تأكيد لا يبحث ليعرف ما هي عقوبة القتل أو السرقة في هذه البلد. ولا يحمّل نسخة من قانون العقوبات لهذه البلد. الأمر لا يعنيه إطلاقًا.

لذلك من العجيب أن تجد من يهاجمون الإسلام، في الغالب لا يعرفون عنه إلا قانون العقوبات الذي هو جزء من منهجية حياة متكاملة فيها قوانين الرخاء الاقتصادي، والعدل الاجتماعي، والفاعلية السياسية وغيرها من قوانين الحياة العامة.

لذلك فالإجابة الطبيعية بالنسبة لي عندما يسألني أحدهم عن الحدود في الإسلام ويستنكر القصاص، أو الرجم أو غيرها من الحدود، يكون ردي الطبيعي هو بسؤاله هل يعرف ما أقره الإسلام من حقوق الأيتام، أو الزوجات، أو أهمية التعلّم، أو فضل التراحم والتكافل الاجتماعي، أو النظام الاقتصادي الشريف، أو السلوكيات الاجتماعية اللائقة وغيرها العشرات من أساسيات إعمار الأرض؟ وهل يستنكر على بلده قوانين العقوبات الخاصة بها؟ الأصل هو الخير، والجمال، والعمل، والإعمار، والتكريم، والثواب. ونعم هناك قانون عقوبات لمن يحاول إفساد كل ذلك وتدمير سلام النفس والمجتمع.

ما الذي يمكن أن يخسره المؤمن بإيمانه؟!

هل يمكن لشخص يتبّع نظامًا صحيًا ولا يفرط في الدهون والسكريات ولا يدخن، أن يخسر شيئًا؟! هل يضره العابثون بأجسادهم المدمرون لها؟ هل لهم أن ينتقدوه أو يحاولوا إثنائه عن عاداته الحميدة؟ ولماذا يحاولون إثنائه أصلاً؟! المؤمن في الغالب (أو من المفترض أن) يتبع نظامًا قيميًا وأخلاقيًا يجعله ملتزمًا بمباديء سامية وتصرفات تحفظ السلام النفسي والمجتمعي. أي إشكالٍ يمكن أن يخرج من هذا؟!

وإلى من يقولون أن الأديان أشعلت الحروب بين البشر وعمّقت الضغائن والكراهية، كيف يمكن أن يكون هذا صحيحًا وكل الحروب أصلها حب التملك والانتهازية وحب فرض السيطرة وحصد المكاسب وخدمة المصالح، مهما قال عنها أصحابها؟! يقول “جوردان بيترسون” عالم النفس الكندي: “إذا كانت الحروب تشعلها الأديان، فلماذا تتنازع الحيوانت؟ أنه صراع حول السلطة والسيادة الإقليمية territorial conflict and dominance. فلتكفينا حججًا ظالمة وافتراضات ليس لها أساس من الصحة!

إذا كانت هناك احتمالات كثيرة في الكون، بأي شيء تعدنا قصة الإلحاد؟ باللامعنى؟ بنسبية كل شيء؟ بالعدم بعد الموت؟ تظل قصة الإيمان هي القصة الأجمل والأكثر قدرة على جعل الحياة متوازنة وجميلة.

الإيمان بالغيب

ما تعلمته من قصة نورهان، هو أن الإصرار على إيجاد تفسيرٍ منطقيٍ مفهوم للعقل البشري المحدود، لكل مقتضيات الإيمان، يمكن أن يُدخل الإنسان في ثقبٍ أسود خطير يسحبه إلى غياهب غير معلومة العقبات. تعلمت تأكيد أهمية الإيمان بالغيب! تعلمت أهمية التواضع عندما أحاول جاهدة ولا أفهم واليقين أن كل ما جاء الله ﷻ به فهو الخير.

يقول تعالى في سورة البقرة:

ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴿٢﴾ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴿٣﴾ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴿٤﴾ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ۖ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿٥﴾.

نعم الإيمان بالغيب هو السبيل للاطمئنان وهو من عوامل الفلاح الحقيقي.

الإيمان بأني عقلي لن يمكنه أبدًا إدارك كل شيء عن الخالق ولا استيعاب كل ما يجري في الكون من مقادير…

الإيمان بأننا ما أوتينا من العلم إلا قليلاً وبأننا مازلنا نعبث بقشور المعرفة عن الكون والحياة…

الإيمان بأنه لا يمكن ألا يكون للكون خالق وبأنني حتى ولم أستطع فهم وجوده بشكل كامل، لا يعني هذا أي شيء في حقيقة وجدوه! فالجاذبية تعمل سواء آمنت بها أو لا. والكون في دوران مستمر سواء آمنت أنا بذلك أو لا. وأنا عائدة إليه سبحانه طال الأمد أو قصر، سواء اقتنعت بذلك أو لا. 

تعلمت أن أتبع الضوء للخروج من النفق المظلم وأن عدم فهمي الكامل لمصدر الضوء لا يعني أبدًا أن أبقى في النفق المظلم كبديل!

تعلمت أن أسأل الله الثبات!