سلام، معالجة عقد الطفولة وأخطاء الحاضر

بقلم: ياسمين يوسف

1 فبراير، 2020

من أكبر معيقات الحياة الطيبة، وتقدمك في الحياة، بل ومن أكبر المعيقات لبناء مناعتك ومقاومتك وإرادتك، هي عقد الطفولة. عندما تصل لسن الشباب والسن التي تصبح فيها ناضجًا كفاية لتحمل مسؤولية نفسك وقرارك، تكون للأسف قد تعرضت للكثير من الأذى غير المقصود أو ربما المُتعمّد ممن كانوا مسؤولين عن رعايتك والعناية بك. كل تلك التراكمات النفسية السلبية تزداد تعقدًا وتمنعك من أن تبدأ حياتك الطيبة كما تريدها أنت. تشير كارين رايفيتش وآندرو شاتى في كتاب “عنصر المقاومة” The Resilience factor، أن التغلب على عقد الطفولة هو من أهم عناصر بناء المقاومة والإرادة والتحمّل. ولكن كيف؟ وما علاقة ذلك بأفضل نسخة من نفسك؟

هشاشة النفس الإنسانية وكرة الثلج

إن النفس الإنسانية هشة جدًا وتتأثر بكل لمحة أو إشارة أو كلمة أو تصرف. كل شيء مررت به في الطفولة قد أثّر فيك. مرة ناديت فيها على الأب أو الأم ولم تتلق ردًا، يمكن أن تكون قد تسببت في شعورك بعدم أهميتك وقد تكون بدأت تنسج تعزيزًا لهذا الشعور في كل موقف مشابه؛ كعدم انتباه المعلم لرفعك ليدك بسؤال وغيرها من المواقف الصغيرة والكبيرة. والأمر يشبه كرة الثلج. فموقف واحد يحلله الطفل بطريقة خاطئة، سيتراكم عليه الكثبر من المواقف الأخرى التي تعزز لديه نفس الشعور. وقبل أن تصل لسن الرشد، تكون قد تكونت عنده العديد من العقد التي ينفث فيها كل موقف يعززها من وجهة نظر الشخص.

كل هذا ولم نتحدث عن الإيذاء الحقيقي سواءً كان متعمدًا أو لا. هناك إيذاء غير مقصود من الأهل كاهتمامهم الطبيعي بطفل جديد مما يُشعر الطفل الأكبر بعدم الأهمية. 

أو كإنشغال الأهل بكسب العيش وعدم ملاحظة ما يجري في حياة الطفل والتقصير في إعطائه الحب، والاهتمام والعناية، مما يجعله محرومًا عاطفيًا. أو كإصرار الأهل على وضع معايير ظالمة لنجاح الطفل وإجباره على أنشطة ومجالات لا يحبها ومقارنته بغيره وهدم ثقته بنفسه. وهناك بالطبع الإيذاء المتعمّد والذي قد يتضمن الضرب والسباب والانفعال الشديد والتعنيف والتوبيخ وخصوصًا أمام الآخرين. كل موقف مهما كان صغيرًا يحفر جرحًا ويترك أثرًا في نفس الطفل. وعندما يبدأ في سن الرشد، وبدلاً من أن يكون مستعدًا للحياة مسلحًا بالحب والحنان والتوجيه والثقة بالنفس والإصرار، يجد نفسه على أعتاب المرض النفسي مُستهلكًا إنسانيًا وغير قادر على التقدم خطوة واحدة إلى الأمام. وبذلك يُهدر أعوامًا يحاول فيها التخلص من تلك الآثار المدمرة إن أدرك أنه يحتاج لمعالجة نفسه. والويل كل الويل إذا لم يدرك. فسيستمر نمو كرة الثلج القاتلة التي قد تأخذ في طريقها كل من يقترب منه قبل أن تبتلعه هو وتقضي عليه!

ضرورة حفظ الميزان

لذلك فإن من أهم أدوار أولياء الأمور والمعلمين في تعاملهم مع الأطفال واليافعين، هو مراقبتهم وانتباههم الشديد لأثر كل موقف يحدث في حياة الطفل ولنتيجة كل كلمة وفعل يقومون به في حياته. فإذا أعطى الأب مصروفًا أكثر لأحد الأبناء ولاحظ تغيرًا في ملامح ابن آخر، عليه أن يقوم على الفور بتفسير ذلك وتوضيح سبب زيادة مصروف أحد الأبناء. وإذا كانت الأم والأبناء في زيارة الجدة، وقامت الجدة بمدح أحد الأبناء، تقوم الأم على الفور بتعزيز ذلك المديح والثناء أيضًا على الطفل الآخر الذي يتابع المشهد.

ذلك لأن للمشاعر ميزان في منتهى الدقة. أي انتهاك لما يراه الطفل حقًا له، سيشعره بالغضب. ولن يتبخر هذا الغضب وحده. بل ينبغي مناقشة الطفل في القناعات التي أدت لهذا الغضب. وكل توبيخ للطفل أمام الآخرين، يُشعره بالإحراج ويؤذي ثقته بنفسه. ولن يختفي شعور الإحراج. بل ينبغي أن يعتذر من قام بالتوبيخ ويكون اعتذاره أمام نفس الأشخاص الذين شهدوا التوبيخ ويقوم بتعزيز ثقة الشخص بنفسه أمامهم. وهكذا في الفصل الدراسي. إذا سأل أحد الطلاب سؤالاً فهاجمه أحد الطلاب الآخرين ووصفه بالغبي، يجب أن يتدخل المعلم فورًا لإعادة التوازن لميزان مشاعر الطالب المُعتدى عليه لفظيًا.

مهد الأمراض النفسية

إن مرحلة الطفولة قد تتحول لمهد للأمراض النفسية حيث تنشأ فيها بذور تلك الأمراض وتترعرع مع نمو الطفل. خذ على سبيل المثال مرض النرجسية وهو الذي يصنع المرء لنفسه فيها صورة خارجية براقة بينما هو في الداخل شخص ليس لديه تعاطف، يشعر بإستحقاق الأفضل ويهتم فقط بالظهور في أبهى صورة وبأكبر قدر من الانجاز حتى لو بالخداع وتقديم صورة غير حقيقية عن نفسه.

هذا المرض يسهم الأهل في تنميته في الطفل بإهتمامهم بالنجاح السطحي الخارجي كما تقول د. راماني درفسولا Dr. Ramani Durvasula فالأم مثلا لا تعتني بوجدان الطفل ولا تعبأ عندما يطلب منها أن تقرأ معه وهي لا تثني عليه عندما يظهر الود تجاه الآخرين. ولكنها في مبارة الكرة تشجع بجنون من المدرجات وتلتقط الصور بكثافة عند فوزه بمدالية. وهي تكافئه فقط على الانجازات الكبيرة التي يراها الآخرون. وهي بذلك تعزز لديه النجاح الخارجي السطحي البراق وتحرمه وجدانيا من الاهتمام الحقيقي التلقائي. وسواء كان هذا هو ما تفعله الأم مع الطفل، أو سواء نشأ الطفل في أسرة من النرجسيين فيرى والده يغضب ويهين النادل إذا اخبره أنه عليه بالانتظار حتى تفرغ طاولة بينما يشعر الأب بالاستحقاق لطاولة على الفور، سينشأ هذا الطفل حاملاً لبذور ذلك المرض النفسي.

بالإضافة إلى زراعة بذور المرض النفسي، في الغالب لا يلتفت الأهل والمعلمون لإظهار سلوكيات رباطة الجشأ والمناعة النفسية resilience ولا يظهرون إدارة جيدة للمشاعر ولا يعلمون الطفل أي شيء عن إدارة المشاعر وتنمية تلك المناعة النفسية. وبالتالي هم لا يهيئونه للحياة ويتركونه عرضة وضحية لأحداث الحياة تطيح به يمنينًا ويسارًا.

إن الانتباه للحالة الوجدانية للطفل لهو أمر في منتهى الأهمية ويجب أن يكون على رأس أولويات الأهل والمعلمين حتى لا تتكون العقد النفسية لدى الطفل وتستمر معه عندما يكبر ويكون من المستحيل تذكر أسبابها وتتعقد بالتالي إمكانية التعامل معها. ولكن كيف يمكن للشخص البالغ أن يتخلص من تلك العقد التي ربما هو لا يذكر كيف نمت بداخله؟

نسخة الأمس مضت وانتهت ولم يعد لها وجود

هنا تأتي أهمية مفهوم “أفضل نسخة من نفسك”. عندما يتسلّم الفرد زمام أموره ممن وُكل إليهم أمر تربيته ورعايته في الصغر، من الهام أن يدرك أن كل ما فات فقد مات فعلاً ولا سبيل لعمل أي شيئ تجاهه في الغالب. فإذا آمن أن نسخته بالأمس قد انتهت ولم يعد لها وجدود، سيكون الخيار الوحيد أمامه هو أن يبني نسخة جديدة على أفضل ما يكون. ولكن سيكون عليه أن يتعلم عن بناء الهوية، وعن فهم وإدارة المشاعر، وعن تطوير النفس وتزكيتها حتى يشعر بالثقة في قدرته على صناعة هذه النسخة بإذن الله. وهو بذلك سينشغل بالحاضر والمستقبل عن الالتفات للماضي. وسيدرك أنه في كل يوم، يستطيع أن يقوم بتحسين نسخته الحالية وفي اليوم التالي لا يتبقى من نسخته الماضية شيء إلا في صحيفة أعماله. وحتى تلك الصحيفة، يمكنه أن يمحو كل سيئٍ فيها بالحسنات اللاتي يذهبن السيئات، وبتحقيق شروط التوبة وخطواتها إيمانًا بالغفور العفو سبحانه الذي يعفو فيمحو الذنب كأنه لم يكن.

ذلك الإيمان بذلك التجديد المستمر والتزكية المستمرة هو الأمل الأقوى في حياة أي إنسان للتخلص من عقد الطفولة. فإدراكه أن من قاموا برعايته هم بشر كان لديهم تحدياتهم وربما لم يكن لديهم الدراية ولا الوعي وربما كانوا يتصارعون مع مشاعرهم بدون فهم لها، كل هذا من المفترض أن يجعله يتحرر من سطوة ما فعلوه به. فهو الآن خارج سيطرتهم وأمامه حياة بطولها وعرضها. لن يستطيع أن يصلح ما أفسدته نزاعات أبيه وأمه أثناء مراحل طلاقهما. ولن يستطيع العودة بالزمن لمنع أحد والديه من إلحاق الضرر النفسي والجسدي به. ولكنه يستطيع أن يتسلح بالإيمان والوعي والعلم لصناعة نسخة جديدة هي الأفضل كل يوم بإذن الله.

أين يمكن أن تبدأ؟

أبدأ هنا معنا في مشروع سلام. أبدأ معنا في تعلم كل شيء من البداية وخطوة بخطوة. أبدأ معنا رحلة فهم الحياة نفسها والتي هي عالمك الخارجي. وفهم أدواتك في تلك الحياة: نفسك، ومشاعرك، وقناعاتك (إيمانك بالأفكار)، ومهارات الذكاء العاطفي، وجسدك الذي هو وسيلة التعبير عن كل ذلك. اسمح لنا أن نرافقك في هذه الرحلة نحو نفسك الجديدة ونحو الحياة الطيبة بإذن الله.

أفضل نسخة من نفسك

هي نسخة حرة أنت من تتحكم فيها وتقودها. هي نسخة لا يؤذيها ما فعلته أخطاء الآخرين بنسخك القديمة التي تجرّدت وانسلخت منها كما تنسلخ اليرقة من الشرنقة لتنطلق فراشة جميلة تاركة ورائها هيكلاً ميتًا كان يومًا ما هو كل عالمها. 

هي نسخة اليوم وتتجدد مع كل يوم جديد ولا تنظر إلى الخلف ولا تعبأ بالماضي إلا بالقدر الذي تتعلّم منه لبناء المستقبل بإذن الله. إن إيمانك بإمكانية وجود نسخة أفضل من نفسك، لهو من أهم المفاهيم التي تساعدك على التغلب على عقد الطفولة وتبقيك في حالة من الشغف والترقب والتأهب لصناعة تلك النسخة والاسمتاع بها وبحياتك الطيبة بإذن الله.