الذكاء الصناعي وخلق الإنسان

بقلم: ياسمين يوسف

21 فبراير، 2021

في إحدى الدراسات، درس الباحثون احتمالية أن يشكّل الذكاء الصناعي خطرًا على الإنسان. في هذا المقطع وهذا الرابط، تجد وصفًا مختصرًا لتلك الدراسة. ملخص تلك الدراسة هو كما يلي.

 

على الأغلب لن يستطيع البشر التحكم في الذكاء الصناعي. يحذّر العديد من العلماء من أن اللوغاريتمات لا يمكنها تحجيم الضرر المُحتمل للذكاء الصناعي. وهم أيضًا قلقون بشأن مخاطر الذكاء الصناعي إذا خرج عن السيطرة. فباستخدام حسابات نظرية، أظهر الباحثون أنه سيكون من ضرب المستحيلات التحكم بالذكاء الصناعي الفائق. فعند توصيل الذكاء الصناعي بالأنترنت، سيكون لديه الوصول لكافة بيانات البشرية ويمكنه استبدال كل البرامج الموجودة والاستيلاء على كل الآلات والأجهزة في العالم. يقول العلماء أنه في حالة وجود آلة ذات ذكاء فائق، يمكن أن يدق هذا ناقوس الخطر للبشرية.

وأثناء الدراسة، طوّر الباحثون لوغاريتمًا نظريًا لمحاولة “احتواء” الذكاء الصناعي containment algorithm والذي يحاول أن يضمن أنه لن يضر بالبشر تحت أية ظروف. قام الباحثون ابتداءً بتقليد سلوكيات الذكاء الصناعي ، وبعدها قاموا بتثبيط السلوكيات غير المرغوب فيها، والتي قد تضر بالبشر. ولكن تحليل الباحثين يشير إلى أن مثل هذا اللوغاريتم لا يمكن تطويره. ففي هذه الحالة، يكون التحفيز للذكاء الصناعي خارجيًا بحيث يسعى فقط خلف الأهداف التي تخدم البشرية. واختبر الباحثون أيضًا إمكانية برمجة مبادئ أخلاقية بداخله. ولكن الباحثون أظهروا أن تلك الفكرة لكبح جماح الذكاء الصناعي وغيرها من الأفكار السابقة لها محدوديتها.

يستعرض العلماء طريقتين قد يمكن من خلالهما التحكم بالذكاء الصناعي. أولها هو تحجيم قدراته بشكل ملحوظ، وذلك بفصله عن الأنترنت وجميع الأجهزة الأخرى بحيث لا يكون لديه اتصال بالعالم الخارجي. ولكن، سيجعل هذا الذكاء الصناعي أقل فاعلية في الاستجابة لاحتياجات البشر.

وثانيها يفكر العلماء بتطوير لوغاريتم يأمر الذكاء الصناعي بعدم تدمير البشرية. ولكن هذا سيعني بالتبعية تدمير عملياته الداخلية تلقائيًا. فعند حدوث سلوك له احتمال خطر على البشرية، سيوقف الذكاء الصناعي عملياته ولا سبيل لمعرفة ما إذا كان توقف عن العمل بالكلية أم أنه مازال يبحث احتمالية تدمير هذا السلوك للبشرية. الأمر الذي يجعل مثل هذا اللوغاريتم، إن أمكن بناؤه، غير صالح للاستخدام.

وبناءً على هذه المعطيات، لا يوجد لوغاريتم واحد يمكنه إيجاد حل لاكتشاف احتمالية أن يُلحق الذكاء الصناعي الضرر بالبشرية.

 

ما أشبه اليوم بالبارحة!

لا أدري لماذا تذكرت سؤال الملائكة لله ﷻ عن خلق الإنسان وتخوفهم من احتمالية أن يُفسد وأن يسفك الدماء. يقول الله ﷻ في سورة البقرة:

  • “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ” (30)

فاليوم، يريد الإنسان أن يطوّر الذكاء الصناعي لينفع البشرية، ولكنه متخوفٌ من فكرة أن يقوم بتدمير البشرية بدلاً من مساعدتها! ولكن شتان ما بين إنسان محدود ضعيف لم يُؤت من العلم إلا قليلاً ولا يستطيع أن يخترق حُجب المستقبل بنظرته القاصرة، وبين خالقٍ عليمٍ خبير بكل شيء! فالله ﷻ لا يتحيّز بمكانٍ أو بزمان ويعلم كل شيء. هو يعلم ما لا نعلم سبحانه. ولكن الإنسان يجهل ما الذي يمكن أن تكون عليه عواقب ما يصنعه بيديه. فهل يدرك الإنسانُ جهلَه؟

جهل الإنسان

للأسف على الأغلب لا يدرك الإنسان قدر جهله! هناك ظاهرة أجدها غريبة تحدث عندما يشهد البحث العلمي تقدّمًا في مجالٍ ما. حيث نرى العلماء والجمهور ينبهرون بقدرة الإنسان على الوصول لهذا الاكتشاف بدلاً من الانبهار بقدرة وعظمة الخالق الذي خلق هذا الإنسان!

إن علم الإنسان بشيء جديد يجب أن يُشعره بجهله الشديد في اللحظة السابقة لهذا الاكتشاف. وحتمًا يجب أن يُشعره أنه تمامًا كتلك اللحظة السابقة التي لم يكن يعلم فيها بما اكتشفه للتو، فهو في اللحظة الحالية جاهل بعدد لا نهائي من الاكتشافات التي هي أمام عينه ولكنه لم يرها بعد! تخيّل الإنسان القديم الذي كان يحمل الأثقال على كتفه بينما تقبع حوله الأشجار والأحجار. ظلّ الإنسان في معاناته وجهله حتى اكتشف أنه يمكنه أن يصنع عجلة من تلك الأشجار والأحجار تيسّر عليه مهامه. فيصنعها ويندهش من عبقريته التي سمحت له بصنع تلك العجلة.

ولكنه قبل اكتشاف قدرته على ذلك، كان جاهلاً باحتمالية تحقيق ذلك. قس على ذلك كل شيء آخر. إن العناصر الكيميائية كانت حولنا منذ قديم الأزل، ثم اكتشفنا إمكانية حصرها واستخلاصها وتركيبها واستخدامها فيما يفيد. وانبهرنا بالعبقرية العلمية للإنسان ونسينا فترة الجهل التي لم يستفد فيها الإنسان بأي من المواد في محيطه. فقبل اكتشاف إمكانية تصنيع مواد التخدير للإنسان قبل العمليات الجراحية، عاني الإنسانُ الأمرّين ودفعت تلك المعاناة، العقولَ المفكرة لتصنيع تلك المواد التي كانت عناصرها الأولية متاحة أمامنا طوال الفترات السابقة لذلك.

إن الاختراعات والاكتشافات البشرية يصعب حصرها. فالكهرباء، والطاقة الذرية، والنووية، وتقنيات اللاسلكية وغيرها من الاكتشافات والاختراعات، كانت في علم الغيب يومًا ما. وكانت كل مواردها حولنا وكنا نجهل كيف يمكن أن نستفيد منها. فكيف لا ندرك أننا الآن مازلنا نجهل الكثير مما سيتم اكتشافه لاحقًا؟! كيف لا يجعلنا العلم ندرك جهلنا! وكيف ننبهر بالمكتشف بدون أن ننبهر بالخالق الأول الذي صنع ما نكتشفه وما لم نكتشفه بعد!

إن الناظر للبشرية من خارجها على مرّ عصورها، ربما لا يمكنه سوى التعجّب من مدى عنجهية الإنسان رغم جهله. تخيّل أن تراقب طفلاً صغيرًا يتعلّم كل يوم شيئًا جديدًا ويتحمّس كثيرًا ويكتسب ثقته بنفسه. هو لا يعلم أنه يومًا ما سيتعلم العلوم والفلسفة وسوف يحقق إنجازات كبيرة. ولكنك أنت تعلم ذلك. وكلما نجح هو في أن يخطو بضع خطوات صغيرة أو تعلّم ربط حذائه أو تعلّم الإمساك بالقلم والكتابة، يظن هو أنه وصل لأقصى العلم بينما هو مازال يحبو في ردهات العلم والمعرفة. وأنت (كوالده مثلا) تنظر وتبتسم وتوفر له ما يحتاجه ليتعلّم وتشجعه. فما أجهله إن كبر يومًا وصار قويًا فرأى أن يتمرّد عليك.

خلق الإنسان والذكاء الصناعي

كنت في إحدى ورشات مشروع سلام أتحدث “بإيمان” عن قدرة الله ﷻ، ففاجئني أحد الشباب بالحديث عن قدرة الإنسان وعن أنه يطور الذكاء الصناعي الآن وأنه سيكون للذكاء الصناعي “الإرادة” والقدرة على اتخاذ القرار. فبالنسبة له، كان الإنسان هو مصدر كل شيء ولا حاجة لإله. بل ويستطيع أن يطوّر شيئًا ذكيًا يتخذ القرار بدون الحاجة لصانعه. وبالنسبة لي، كان هو يرد على نفسه وإن لم يدرك ذلك. فهو ينظر إلى ما سيصل له الذكاء الصناعي متجاهلاً تمامًا مراحل البرمجة الأولية التي يعرف هو تمامًا أن الإنسان هو من برمجها حتى وإن قام الذكاء الصناعي نفسه بتطويرها وتعقيدها لاحقًا بنفسه. والسؤال الذي يطرح نفسه، سيكون عن الإنسان صانع الذكاء الصناعي وكيف بدأت برمجته هو ماديًا، وفكريًا، وروحيًا ليصنع كل القرارات الذكية والأخلاقية حول الذكاء الصناعي؟!

كان هذا هو الباعث على كتابة هذا المقال. وأرجو أن تفيد بعض إضاءاته في فهم أن تطور أبحاث الذكاء الصناعي ينبغي أن يقربنا إلى الله ﷻ ويصيبنا بالدهشة تجاه عظمته وإبداع خلقه للعقل البشري وللكون بكل مواده بدلاً من أن تثنينا عن الإيمان به وعبادته. إن أبحاث الذكاء الصناعي تمدنا بفرصة عظيمة لفهم أنفسنا وفهم الكثير عن فلسفة الحياة. فالإنسان الآن يدرك ما الذي يمكن للقدرات التي يمد بها الذكاء الصناعي أن تفعل إذا قام بتزويد الذكاء الصناعي بقدرات غير محدودة وبعلم غير محدود عن طريق توصيله بالأنترنت.

وهو الآن يبحث ما إذا كان من الحكمة تزويد هذا الذكاء الصناعي “بحرية اتخاذ القرار” من عدمه. فمن ناحية، ليستطيع الذكاء الصناعي أن يقوم بدوره المُنتظر في خدمة البشرية و”اتخاذ القرار” في المواقف الصعبة لمساعدة الإنسان، يجب أن نتيح له كل القدرات، والمعلومات، والقدرة على اتخاذ القرار. ولكننا بذلك نغامر، ونخاطر، لأنه قد يتخذ قرارات تدمّر البشرية. ونحن لا قبل لنا بمواجهة آثار دماره إن حدثت! وإذا أردنا تجنب ذلك، فسنضطر لحجب بعض القدرات عنه وتحجيم وصوله للمعلومات وتحجيم قدرته على اتخاذ القرار، لكي يكون استخدامه آمنًا ولكننا بذلك سنعيقه عن تحقيق أدواره ونقلل من فرص الاستفادة منه. وللآن يعجز الإنسان عن حسم هذه المعضلة!

فسبحان الذي خلقنا، وسلّحنا بقدراتٍ واسعة، وبإرادةٍ حرة، وبنظامٍ أخلاقي، وبمشاعر تتأثر بقراراتنا وتعيدنا للتصرف السليم. وفوق كل ذلك، أرسل لنا الكتب والرسل لهدايتنا. وصمّم نظامًا كاملاً حولنا يمكن أن نفعل فيه ما نشاء متبعين تعاليمه أو لا. ولا يهم ما نفعله في هذا العالم المؤقت فهو ليس النظام المقصود حمايته وهو ليس مستقرّنا الأخير. هو مكان التعلّم والتجارب واستيعاب قدراتنا وحدود إرادتنا الحرة بعيدًا عن تعاليمه. هو مكان اكتشاف نتائج الإرادة الحرة من ظلم وألم ومعاناة وفقد. هو مكان قد نتعلم فيه الاشتياق لعالمٍ ليس فيه ظلم، ولا غلّ، ولا يكون فيه إلا السلام بسم الله السلام!