الدعاء… ليس حيلة المهزومين، بل قوة المؤمنين

بقلم: ياسمين يوسف

15 مايو، 2021

عندما تلم بنا الأزمات وتنزل بنا النوازل، ترتفع أكفنا بالدعاء تلقائيًا إلى مصدر الدعم، والعون، والحول، والقوة. وأحيانًا ما نجد من يقول “الدعاء هو من قلة حيلة المهزومين”. وما أبعد هذا القول عن حقيقة الدعاء. فالدعاء هو سلاح المؤمنين وليس الضعفاء والمنهزمين. وكلمة “المؤمنين” هذه تحمل في طياتها معانٍ كثيرة. وأعني الفوائد النفسية الناتجة عن الدعاء وليس تحققه من عدمه. فلنستعرضها معًا في الأسطر التالية.

التحكم

إن أول ما يحققه لنا الدعاء هو إحساس بأن هناك ما يمكننا فعله تجاه مشكلةٍ ما، تجاه أمل ما، تجاه خوف ما، أو حزن ما. ما يجعل الإنسان يجزع، أو يسقط في هاوية الاستسلام لمشاعر الخوف، والحزن، وربما المرض النفسي، هو شعور فقدان السيطرة على الأمور. وعندما يكون لا حيلة للمرء، ولا قوة، وعندما تكون كل الأبواب مؤصدة، وعندما تحكم الأزمات قبضتها حول الفرد فلا تُفلته، أو حتى عندما يمتلك حلمًا أو أملاً مستحيلاً، يزداد شعور فقدان السيطرة وفقدان التحكم وتزداد طرديًا مع ذلك مشاعر الخوف، والجزع، والحزن العميق وربما الغضب وغيرها من المشاعر القاتلة. إن أول ما يقدمه الدعاء لك هو “إيمانك” بأن هناك شيء يمكنك فعله تجاه موقف مستحيل، وهو الدعاء. فترفع كفيك وتدعو الله ﷻ موقنًا بأنه مصدر كل القوة والحول وتطمئن إلى أنك في يدك شيء تستطيع فعله. وهذا يقودك إلى ثاني فائدة نفسية من فوائد الدعاء… ألا وهي الأمل.

الأمل

إن أكبر أزمة ممكن أن يمر بها الإنسان في أي موقف هي “اليأس“. إن وصول الإنسان إلى مرحلة اليأس من أن مشكلة ستنتهي أو من أن أملاً سيتحقق، هو رفع الراية البيضاء، والاستسلام التام. وربما اليأس من الأمل، ليس بقساوة اليأس من زوال الألم. فالثاني أشد فتكًا بالإنسان حيث يدفعه لعدم النهوض من فراشه أو ربما يدفعه لإنهاء حياته. الدعاء يعطي للإنسان إحساسًا ببعض التحكم بأن هناك ما يمكنه فعله، ويعطي للإنسان الأمل في تحقق ما يتمناه من رفع ألم أو تحقيق أمل بإذن الله. ثم يضبط هذا الأمل بتوقعات واقعية عن طرق الاستجابة، فلا يحصر الإنسان نفسه في خيار واحد فقط لطريقة زوال الألم أو تحقق الأمل. راجع منشور “ماذا تعني استجابة الدعاء“، على صفحة مشروع “سلام” على فيسبوك. الدعاء يمنحنا الأمل، لا نعرف عظمة نعمة الأمل إلا بمعاينة لعنة اليأس!

الأمل المُتعلّم

يشرح “مارتن ساليجمان”، مؤسس علم النفس الإيجابي، مفهوم “الأمل المُتعلّمlearned optimism or learned hopefulness، والمعروف في السابق باليأس المُتعلم أو “العجز المُكتسب” learned helplessness. فقد أجرى “ساليجمان” تجارب على الفئران، ثم على الكلاب حيث وضع بعضهم في أقفاص لا يمكن الخروج منها بأي حال من الأحوال وعرضها لصدمات كهربية خفيفة. 

وعندما حاولت الكلاب الخروج، وأدركت أنه “ليس بمقدورها فعل أي شيء يغيّر موقفها”، استسلمت وجلست تترقب حدوث الصعقات الكهربية وتنتظر مرورها. بينما كانت هناك مجموعة ثانية من الكلاب داخل أقفاص بها آلية لفتح باب القفص إذا قام الكلب بتحريك رافعة. في هذه الحالة، عندما جاءت الصدمة الكهربية وحاول الكلب الخروج ووجد الطريقة، قام بفتح الباب وهرب.

الغريب أنهم عندما وضعوا مجموعتي الكلاب في بيئة مفتوحة يمكن للكلاب الهروب فيها ثم عرّضوها لصدمات كهربية، استسلمت المجموعة الأولى أيضًا ولم تحاول الهروب في تلك البيئة المفتوحة، بينما سارعت الكلاب في المجموعة الثانية بالهرب من مصيرها المؤلم.

كان الاستنتاج المبدئي لسليجمان هو أن المجموعة الأولى من الكلاب “تعلّمت اليأس” أو “اكتسبت العجز“. ولكن لاحقًا أضاف “ساليجمان” أن هناك “أدلة لا يُستهان بها” أن ما حدث هو العكس. يقول “ساليجمان” أن الباحث “ستيف مايرSteve Meyer قد أقنعه أنهم كانوا مخطئين في تفسير ظواهر التجربة الأصلية حول اليأس وأنه يبدو أن عكس ما تخيلناه هو الذي حدث.  

فما تخيلناه هو أن الفئران، والكلاب، والأشخاص عندما واجهوا مواقف عصيبة وأدركوا أنهم “ليس بإمكانهم فعل أي شيء تجاهها”، قد “تعلموا اليأس”. ولكن يُظهر “ماير” أن هناك مراكز في المخ dorsal raphae nucleus هي المسؤولة الأولى عن الاستجابة التلقائية default response عندما يواجه الحيوان أو الإنسان مواقف صعبة لا يمكنه الخروج منها. وهذه الاستجابة التلقائية هي “اليأس”. إن مراكز الـ dorsal raphae nucleus مسؤولة عن هرمون “السيروتنين” وهو الذي يؤثر على جميع وظائف الجسم.

أحب أن أضيف بعض المعلومات عن هذا الهرمون قبل أن نسترسل في مساهمات “ساليجمان”. هذا الهرمون يساعد الإنسان على إدارة “وحفظ استقرار” مزاجه، وتحسينه، ويساعد على النوم والهضم والعديد من الوظائف الأخرى. وهو يقلل من الاكتئاب، ولكنه قد يؤدي إلى الاكتئاب إذا تم افرازه بكميات كبيرة. يبدو أن المخ يسعى لتهدئة الإنسان عند حدوث أزمة عن طريق افراز هذا الهرمون، ولكنه يؤدي بالشخص لعدم فعل أي شيء ويكون في حالة “يأس”.

يضيف “ساليجمان” أنه يبدو أن الاستجابة التلقائية عند حدوث الأزمات هي “اليأس”، ويبدو أن الحيوانات في التجربة قد “تعلمت الأمل” بعد أن أصابها اليأس وأصبح هناك مفهوم “الأمل المُكتسب” أو الـ learned optimism or hopefulness. ويضيف “ساليجمان” أن “من حسن حظ الإنسان” أنه لديه فص أمامي كبير بالمخ وظيفته هي “التعلم” والبحث عن الأمل والبحث “عما يمكن عمله” وبناء التعلم أن المستقبل أفضل. وما هو الدعاء سوى تصريح وقناعة منك بالأمل في قادم أفضل؟ إن الدعاء هو أول سًبل تعلّم الأمل. وهو أول سبل النهوض لإيجاد الحلول والفاعلية. 

ولكن، ما الذي يمكن أن يفعله الإنسان، عندما لا يكون هناك أي شيء يمكنه عمله وعندما تعجز قوته وحيلته؟

الاستزادة من مصدر القوة الأوحد

هنا يأتي دور الدعاء. إنه مخ العبادة أو هو العبادة. فالمؤمن يحيا بالأمل في أن المستقبل أفضل بإذن الله. المؤمن يحيا بحسن الظن بالله ﷻ. جعل الله ﷻ الدعاء سلاحًا فتتمسّك بهذا الأمل في كل أزمة ومع كل أمل مما يجنّبنك اليأس ويجعلك في حالة بحث مستمرة عن الحلول وفي حالة من الأمل “أنه هناك ما يمكن عمله” وأنك “لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا“. إن رجوعنا لمصدر القوة الأوحد ويقيننا من استجابة المُجيب سبحانه، لهو المنقذ الأول لكل منا، ينقذنا من أنفسنا قبل أي شيء ويمدنا بمددٍ من معينٍ لا ينضب من القوة، والحول، والقدرة. وخصوصًا عندما نستحضر جميع الأسماء الحسنى الأخرى ونوقن بأن الله ﷻ هو القادر، العظيم، مالك المُلك، المهيمن، الجبار، القهار، القوي، المتين. ونؤمن أنه الولي، الوالي، الوكيل، الحفيظ، يجعلنا هذا نوقن أننا أنزلنا حاجتنا عند قوي ودود. فهو يقدر، وهو يعتني بنا أيضًا وليس فقط يقدر ولا يكترث لأمرنا حاشاه.

الدعاء هو مصدر “الأمل” واطلاق استغاثة تضعنا في حالة الترقب لحدوث ما هو أفضل في المستقبل… وهذا هو الأمل. بل أن “الإيمان” يعني “الأمل“. عندما يقول أي متحدث تحفيزي “أنا أؤمنI believe معناها، أنه لم يلقِ بأسلحته، بل أنه “يؤمن” أن ما يرجوه سيكون واقعًا بإذن الله.

أحذر من ترك الدعاء وقت القوة

ومن المغالطات الشائعة التي نقع فيها جميعًا، أن نترك الدعاء في أوقات القوة، أو عندما نشعر بسيطرتنا على الأمر. كأن يكون أحدنا لديه ثروة كبيرة، أو يعمل في وظيفة مرموقة تدر عليه الرزق الوفير الثابت شهريًا وينعم فيها بالأمان الوظيفي، فتجده يترك الدعاء ولا يٍسأل الله ﷻ أن يرزقه. وكأن عمله هو الذي يرزقه. أو أن يكون أحدنا بصحة جيدة موفور القوة، فنجده لا يسأل الله ﷻ القوة، وكأنه مكتفٍ بقوته! أو أن يكون أحدنا بارعًا في التخطيط وتسير كل أموره كما يرتب لها، فيعتز بسيطرته على الأمور ولا يسأل الله ﷻ أن يدبر له أمره.

إن كل تلك السلوكيات هي مظاهر الاعتماد على العمل والتوكل على العمل والنفس، لا على الله ﷻ. كما أن فيها نكران لتوفيق الله ﷻ وعدم فهم منا أننا نتحاج لأن نمتن لأن الله ﷻ قد سمح للأمور أن تسير كما نريدها، وقد وقانا العديد من العقبات التي كان من شأنها إعاقة كل جهودنا. يقول ابن قيّم الجوزية، إن لله ﷻ عبادة في السراء، كما أن له على العبد عبادة في الضراء. فلا ينبغي أن ندعو الله ﷻ فقط عندما نكون في ضراء، ونغفل عن دعائه في أوقات الرغد والنعيم. وأعني دعاءه وطلب المزيد منه، وليس فقط الشكر على ما أقرنا فيه من النعم. فالدعاء مع المقدرة، هو تسليم حقيقي بأننا لا حول ولا قوة لنا إلا بالله ﷻ.

الدعاء ليس أفيون المُغيبين، ولا حيلة الضعفاء. الدعاء هو سلاح المؤمن، ووسيلته لتحقيق كل أمل وللنجاة من كل ألم. فأرفع يديك للسماء، وأدعُ إنه قريبٌ مُجيب.